صدر مؤخرا عن دار دبوان - كيوان للطباعة والنشر- الشاعرة *ربا مسلم * أنتظرك بفارغ الصبر * والتي تم تقديمه من طرف الناقدة الأديبة نجاح إبراهيم
المقدمة :
ضوءٌ في الجدارِ المعتمِ
وقرأتُها.. بقلم الأديبة :نجاح إبراهيم
ساريةً من ضوءٍ ، في ليلٍ حزين وبارد.
تسعى، على الرّغم من قساوةِ الواقع، كي تنحتَ قصيدتَها لتضيء بها عتمة مساءٍ مكسور..
ترفو ما مزّقته الحرابُ ، في مشهد يخدشُ العين والقلب، لما فيه من خراب وفساد ورملٍ وملح..
واقع مثقل بالحزن والدّمع، تخترقه كما الضوء عند ولادة فجر ، وما الفجر إلاّ انبعاثها المنسوج من صهيلِ حرفٍ وعزيمة ، لكسر الغياب وفتحِ ممرّ نحو الأفق ، وانتظار المطر بفارغ الصبر والاحتراق.
في ديوانها" أنتظرك بفارغ المطر" قصائد أشبه ما تكون بترنيمة ، ترسلها الشاعرة (ربا مسلم)إلى الآخر /الرّجل، الذي يتمّم دائرة وجودها في وطن يظلّ حاضراً فيه. رسمت ملامحه، لأنه الوحيد الذي رقصت له قطراتُ دمها رقصة الحياة . فهل يوجد أجمل من الحياة حين تعصف بالموت واليباس، وتطلع كشغف وحيد يحيل الشاعرة من نقطة حبر عمياء إلى مجرة عاشقة؟ ولشدّة عشقها تستسيغ الجحيم ، سعادة تملؤها وإن أحرقتها:
" لا ضوء يشبهك
لا ليل له ظلك
لا فرح له ضحكتك
تمسك القلب بين يديك
فيتشهى البحر الغرق.."
والشاعرة بفارغ مطرها تنتظره، تنتظر الرّجل الذي تشتهي، لذا نجدها تربط في كثير من قصائدها بينه، هو الذي أحرق بحرُه ثغرَها ، فانسكبت القوافي، تضيئُها ملامحه، وبين الوطن ، وما عيناه إلاّ وطن وعشق ، وهي المتأرجحة بينهما:
" عيناك قصيدتا
عشق ووطن
وأنا المرتحلة بينهما
حباًلا يفنى
ألتحف اهدابك
وحدها تقهر برد أحلامي
تزملني من رجفة التشظي..
تكسر باب عزلتي .."
فالوطن، إنْ ضاع، ضاع كلّ شيء ، وبات على شفا هاوية وتشرد وانطواء، فليس إلاه، وذاك الرّجل الذي ترفعُ إليه الأناشيد ..
بالتأكيد، ليس كلّ رجل يستحوذُ على هذه المكانة ، ليكون بمثابة وطنٍ، ملاذٍ ودفءٍ ، يقضي على الضياع والبرد والصمت، وإنما الرّجل الذي يبني وطناً ، يفيضُ بالعطاء كنهر، فثمّة رجل فضحته الشاعرة ، وكشفت أوراقه ، وذلك حين همّ بكسر أغصان المدن، وقام بحرقها عن سابق إصرار بإسم الثورة والتغيير ، وبإسم الدّين ليغادر غير نادم عما اقترفته يداه من إثمٍ وفساد، وقد برعت حين حملته مسؤولية فقئ عينيّ الوطن، وأدانت فعلته المخزية:
" وأنت ترحل..
متأبطاً غدك
تجرّ وراءك
عيون الوطن المفقوءة
وظلال الأحلام المؤجلة
لا تترك الدمع يثقب قاربك
ليدفع عنك فاتورة
الفرح القادم.."
إنّ الذات الشاعرة عند "ربا مسلم" مؤمنة أيما إيمان برسالة حرفها ، الذي رهنته لأجل أرضٍ عشقتها، وستبقى لها عاشقة ما بقي الأزل، لهذا استطاعت أن تطرح من خلال هذا الإيمان الهمّ الإنساني المهيمن من أقصى الحرف إلى أقصاه ، من خلال قصائدها السّاحرة ، الغنية، التي تشي بمفاهيم جمالية وقيم وأهداف إنسانية ووطنية نبيلة . إذ إنّ مواضيعها تضربُ على وترِ الإنسان المعذّب ، الذي يحملُ جرحاً يطمح برفوه ، وبإبادة واقعٍ ملئ بالفقر والخيانة واليأس ، ليرسم مستقبلاً أجمل من خلال رؤية الشاعرة الباحثة عن تلك الجماليات المضيئة ، تدخل العتمة ، وبيدها فانوسها لتخرج بذائقتها المائزة ، المغارة الموحشة ،تصرخ بصوت عالٍ:" الغد أفضل، الغد نصوغه من نور :
" سأضرم النار في المطر
وأهبك كل أحلام الشجر
سأمسك الريح من خصرها
ألوي عنق الجغرافيا
وأحرق كل الأقاليم
التي لا تنتمي لمذهب عشقك
وأحضنك لملايين السنين.."
إنّ "ربا " تستطيعُ أن تتجاوزَ الحزنَ والمأساة لتحفر في الجدار المعتم نافذة، تنقلها إلى الضوء، والحلم، والندى المخضرّ كالأنجم البهية . فقصيدتها تمتازُ بطاقة راشحة بالأمل، والبعث، والحياة ، والرّغبة في تخطي واقع مؤلم ومنكسر، انعكس ذلك من خلال لغة رامزة، ومتقنة في أسلوب مبدع جعلته يحتضن الموضوع لتقدمه للمتلقي بطريقة شيقة ومدهشة، لغة جميلة نابضة بإحساس عميق ، وألفاظها منتقاة بوعي.، وإن كانت بعض القصائد تحتاج اختزالاً وتشذيباً، والابتعاد عن النثر ما أمكن ، بيد أننا- في كثير من القصائد- نستكشف في لغتها جماليات شعرية تعبّر عن تجربتها ومعاناتها من خلال صور شعرية تمورُ فيها الشفافية .
ونلمحُ طاقتها الداخلية من خلال التخييل، الذي اتخذته في بعضها ، كركيزة أساسية ، طاقة وهابة من استعارة وتشبيه ومجاز ، وهذا ما يجعلنا نقرأ قصيدتها باستغراق ، كأنما نتأمل فضاء أزرقاً ، يتماهى فيه أفقُ البحر مع ضفة السّماء :
" أبلسم الحلم الذي تفرقد
فوق نمارق غياب
أغرق في لج توق أمواجه تتطاول
على ما تبقى من عنادي
أرنو إليك وهماً على وهن
وفطام عذابي لماك.."
ليس لنا سوى أن نجزم على الفور، أن الشاعرة ترسم جملتها بإحساس رهيف وعناية لافتة ، لتهدل في فؤاد المتلقي ، تبني عشاً لتقيم أمداً.
فهي تسعى بكلّ لهفة لجعلها مغتسلة بماء الشعر، تنتمي إليه ، دماً إلى شريان ، تستمطر الضوء من ثقوب الليل، لهذا فقارئها يدركُ حلمها هذا، الذي يتقاطرُ من بين أصابعها إبداعاً سامياً ووهجاً يخترقُ جدارَ العتمة.
نجاح إبراهيم- سوريا
0 التعليقات:
إرسال تعليق